الأربعاء، 7 نوفمبر 2012

دروشة السياسة


دروشة السياسة
 يصنف أرسطو طاليس ، والفارابي ،وغيرهما ... السياسة  ضمن  الفلسفة العملية ، أي أنها سلسلة من حلقات  الأسباب والنتائج ، وهما يعلمان أنها  تقوم  على تنظير  لا يتوقف للشروط  والقواعد  ، لكنهما لم يدرجاها في الفلسفة  النظرية، لأن كل هذه الشروط  والقواعد التي يتم التنظير لها سياسيا  خاضغة  لمعطى الواقع  ، تأتي منه ، وتعمل على تحيينه .
 بهذا المعنى  الإنسان كائن سياسي  ، لأنه  يعيش وفق  تنظيمه  لإختلافاته المتعددة  ... لكن حين تم  تحويل الحقل السياسي  إلى زواية صوفية ، نكون قد إنتقلنا  من المُمارس  إلى  المحسوس به ، فقط ، وإلى  الجواني – الداخلي  الذي لا يعكس إلا تجربة ذاتية ، والسياسة لم تكن يوما تجرة ذاتية ، إنها تجربة الجماعة ، ونقاش الجميع  قصد تحديد معالم الطريق  .
 لم تفتصر  دروشة السياسة ، وتغييبها وراء  الغيبي ، وفصلها عن شروطها  المنتجة لها ، على الحركات والهيئات  المتبناة لمسار  ديني – صوفي ، أرتوذوكسي حتى في الرؤية  للفعل السياسي ، بل أصبحنا  نلاحظ  أن  تضييق الفرق بين السياسة  والدروشة  مس حركات  وهيئات تعادلية  أو وسط يمينة ... بإختصار ؛ تظهر الشعبوية  في دروشة السياسة  وربطها بالماورائي  بشكل غريب .
 إننا نعرف أن حركة العدل والإحسان  من  أول الحركات  المتبناة للدروشة السياسية ، فأصول الحركة  مرتبطة  بفعل التصوف الذي تم دمجه –في خليط غريب – مع السياسة ، ونحن نعرف أن  التصوف  جانب معرفي روحاني له  خصائصه المميزة .
 ما  يجعل الأمر  مثيرا للسخرية ، هو  دخول حزب الإستقلال إلى الدروشة السياسية  مع أمينه العام حميد الشباط ؛ فالرؤيا التي رآها  حميد شباط ،والتي نظر فيها  الزعيم الروحي للحزب علال الفاسي ، ودعوته إياه إلى  الترشح للأمانة العامة ضد إبنه ... هي  رؤية  تمتح من معين الدروشة ، ونحن لسنا في نقاش لمفهوم الرؤيا ، وهل هي واقعية ، أم أنها تأثير لا شعوري ... إننا نناقش هذا الربط بين  الدروشة والسياسة ، فقبل شباط أرهقنا عبد سلام ياسين  برؤاه المباركة –والتي يمكنها أن تكون لها دلالات أعمق مما يتم إعلانه –بل  هذا مؤكد - الذي أريد لها  بفعل  الأتباع- أو بفعل صاحبها - أن تصبح ذات دلالة سياسية ... إن ما يغيض ليس هو رؤاهم  ،فتلك أحلامهم  ، وذاك منظورهم الفكري ، بل هو  ربط الرؤى  بالمسار السياسي .
 الأغرب ، وفي زمن  العلوم الدقيقة  والعلوم الإنسانية العقلانية ، أن هناك من  يصدق  هذه الدروشة، وهذه الرؤيا ... فيصح بالتالي الآمر على المأمور: إن هذا الغصن من تلك الشجرة ... وهذا ما ينتجه نسقنا السياسي والفكري . 

الفيلولوجي ينصح نجيب محفوظ


الفيلولوجي ينصح نجيب محفوظ
القصة القصيرة
الكاتب : سيومي خليل
وجد نجيب محفوظ  بين مجموعة من الكتب القديمة مخطوطة ،كانت أوراقها من البردي ، لكنها لم تكن مكتوبة باللغة الهيروغليفية، ولا بأي لغة  يعرفها ، ربما كانت مكتوبة  بلغة غير إنسانية ، لكنه قبل أن يصرح بهذا الإعتقاد ،ذهب عند  أحد الفيلولوجيين المعروفين  ، والذي كان على دراية  باللغات ، قدم له المخطوطة ، فما كان من هذا الفيلولوجي  إلا الصمت ، حين سأله نجيب  عما في المخطوطة  ، أشار له بلا شيء ،وتركه وانصرف.
لم يكن نجيب محفوظ  مشغولا  بكتابة رواية  حين عثر على المخطوطة القديمة  ، ففكر أنها  فرصة مناسبة  ليفهم ما في المخطوطة ، ولما الفيلولوجي  صمت ، وما هذا اللغة  التي جمعت بين الأرقام  والخطوط  والنقط   والأشكال.
جمع نجيب محفوظ  مجموعة من كتب  اللغة ، كتب لغات قديمة ، لغات مسمارية ، لغات حضارات ما بين النهرين  ،اللغة اليونانية ، وقارنها  مع لغة المخطوطة  ؛ لا شيء من هذه اللغات  كتبت به المخطوطة  . لكنه لاحظ  أن هناك كلمات  تنتمي إلى  كل هذه اللغات  في ثنايا المخطوطة ، وجد -مثلا- كلمة أسطورة  باللغة اليونانية ، وكلمة عقل  بلغة  البابلية ، وكلمة رب بأكثر من لغة، وكلمات لأسماء آلهة وأماكن معروفة ، لكن معنى المخطوطة  ظل غامضا  عليه .
 قال النقاد :
في أولا حارتنا  إحالات متعددة  لأساطير قديمة، وتلاعب بمعاني  الأسماء  ودلالاتها ، وإنتقاد مبطن للأديان ...
كل هذا  كان السر  وراءه رغبة  نجيب محفوظ في تقليد المخطوطة .
كيف ذلك ؟؟؟
هناك رويتان  ...الرواية الأولى  تقول أن نجيب محفوظ  كان يعرف  لغة المخطوطة ، وفهم معناها ، وعلم أنها  ممنوعة  كما كانت ممنوعة في زمن كتابتها  - هذا ما قال النقاد أنه إعتقده – لذا  فكر في كتابة  رواية  فيها بعض  مما في المخطوطة .
 الرواية الثانية - وهي الأصح - تقول  أن نجيب محفوظ  فهم بعض الكلمات  من المخطوطة ،وحين جمعها أعطته  عبارة واضحة ، هذه العبارة  هي المعنى الكلي  من وراء كتابته رواية أولاد حارتنا .
 بعد أن تلقى  نجيب محفوظ  طعنات  سكين غادرة من أحد المتشددين  بسبب روايته أولاد حارتنا  ،كان يرى، وهو في المستشفى ، أحلاما غريبة  ،وكان يرى وجه المعتدي عليه  بشكل واضح  ، رغم أنه لم يره  جيدا  وهي يعتدي عليه  .
لقد كان المعتدي على نجيب في الحلم  طويلا  ، وكان قوي البنية ، وأنيق الوجه ، تظهر عليه ملامح  الرقة، لكنه كلما إقترب  جهة نجيب محفوظ  إلا  ويتحول وجهه  إلى عبارات مكتوبة بشكل خاطئ ، وإلى كلمات غير مفهومة ،وإلى خربشات لا معنى لها .
 لم يحتج نجيب محفوظ  أن يعرض حلمه على سيجموند فرويد  ، الذي لم يكن يعرفه إلا داخل النصوص  ، فهو كان يعرف معنى  الحلم جيدا . ولم يحتج إلى إبن سيرين  لأن كل تفسيراته للأحلام خاطئة  . كان بإمكان نجيب محفوظ أن يسأل  أي طفل مار  في شارع خان الخليلي  عن معنى  الحلم ، فيجيبه الطفل  ببراءة  ؛ إن المعتدي عليك هو الجهل  الذي يتخفى  في كل المظاهر .
 كان تفسير نجيب محفوظ  لصمت الفيلولوجي  المعروف، والذي عرض عليه المخطوطة  غريبا، وإن كان  يليق بروائي  عالمه مركز في اللغة .
 كتب نجيب محفوظ  في كتاب يومياته ، الذي لم يتم العثور عليه  بعد موته - رغم أن دور النشر  دائما ما تدعي  وجود  مثل هذه اليوميات وأعمال كاملة  غير منشورة للمشاهير  - التالي :
 إن صمت الفيلولوجي يدل على خبث اللغة ،فإحساس الفيلولوجي  بمكر الكلمات  جعله يحتمي  بالصمت ، فكل ما كان سيقوله  كنت لن  افهمه  كما هو ، ثم أنه سيقول  كيف فهم المخطوطة  ، وأنا كنت أريد  أن أفهما أنا لا هو  ، إن اللغة  جد ماكرة  ودائما ما تعني شيئا مختلف  لكل قارئ  .
 لا ادري إن كان  نجيب محفوظ  يعرف جاك دريدا ، لكني أحسست أنه شكره عميقا ، ورد دريدا  الشكر  ، لهذا ماتا معا  ،خصوصا حين  كانا ينهيان  كتاباتهما، فهما كان  على يقين  بأن القارئ هو من لا يموت .