الجمعة، 19 أكتوبر 2012

دفاعا عن مدرسي الفلسفة


دفاعا عن مدرسي الفلسفة
الكاتب :سيومي خليل
---------------------------
ماشهدته الفلسفة من تضييق ، يعود ، بدرجة أولى ، إلى طبيعتها غبر الثابتة ، وهي طبيعة تتناقض مع جوهر فكرة التقديس الثابتة ، وارتباطها بالعقل ، زاد العداء لها ، خصوصا 
، أن الخصوم ،غالبا، ما ينتهجون سبلا لا عقلانية لمواجهتها ، سبل تعتمد على نوع من الخطابات الزائفة ، وتعتمد على وقائع محورة، مليئة بلغة الحماسة ، والمعتمدة على حقيقة يتم إمتلاكها بالحديد والنار .

إن لا إرغامية الفلسفة ، جعلها ظاهريا في محل ضعف دائم ، أمام إرغامية طبائع فكرية آخرى ، نجملها في عبارة واحدة ؛فكر الخضوع والإيمان بحقيقة سرمدية واحدة .

المواجهة ، كانت تتم بين خطين متعاكسين ،خطان لا رابط بينهما ،ولا هدف مشترك يرجوانه ؛ خط تصاعدي ، يضع الأمام مبررا لمنهجه ، لا يرتبط بلحظة ماضوية مقدسة ، بل القداسة في الأصل هي للآليات العقيلة ، التي تسهم في فهم العالم الخارجي ، وتساعد على القيام بتحليله ، فهم يساعد على الخروج من دوائر الثبات ، ويعمل على تجاوز التصلب عند لحظات تاريخية معينة ... ثم يأتي خط ينحو جهة الوزراء ، خط ماضوي ،لا يراكم الإنتاجات المعرفية ، بل يجعلها ثابتة غير متغيرة ، والخروج عن هذه الثوابت ، هو خروج عن المقدس ذاته .

لا أريد ان أسقط ، في هذا المقال ، في التنميطات المفاهيمية ، المستعملة في الإعلام العمومي ، ولا أريد أن أستعين بأحكام القيمة ، وإن كان لها ما يبررها ، خصوصا ،أننا نتحدث عن حدث له طابع يجمع صراع العقل والجهل ؛ فما وقع لأستاذ مادة الفلسفة ، المشتغل بثانوية مولاي علي الشريف ، بمدينة الريش ، ومحاكاة فعل النحر ، بعد القيام بإشباعه ضربا وركلا ،من طرف مجموعة من المتطرفين... قلت ما وقع ، هو توضيح لصورة مشتركة ، يحملها كل مدعي إمتلاك الحقيقة ، والذين يخفون هواجسهم المرضية وراء فهم ضيق وممسوخ للدين ... هؤلاء ، إن إمتلكوا شيئا ما ، فهم لم يمتلكوا إلا نقيض العقل ، لم يمتلكوا إلا فوائض الجهل .

العنف ليس إلا محاولة ساذجة لإرغام العقل على الموت ،محاولة ساذجة إلى درجة أن التاريخ يستهزئ بمن يمارسون هذه المحاولة ، فالتاريخ لم يحفظ أسماء قتلة فرج فودة إلا على سبيل الإدانة ، لكنه حفظ إسم القتيل كأيقونة فكرية ،أسهمت في الدفاع عن نور العقل ، وما يفعله التاريخ من إقصاء للفكر الأحادي ،فكر مدعي إمتلاك الحقيقة ،هو دليل على تصاعديته التي لا تأبه لكل الصغار ، والذين في لحظة زهو يخالون أنفسهم كبارا ، فهم ، وفي تعبير دقيق ، لا يحاكون الا إنتفاخ ديكة القمار والرهان حين تتصارع .

إننا نعلم علم اليقين ، أن النسق العام للمجتمع ، لا يضع الفلسفة كنمط تفكير في عمقه ، لكنه يستعمل أدواتها التحليلة ، فنحن لا ننكر تجاوب ، خصووصا ، أننا في زمن إتصال عام بين جميع الثقافات ، المواطنين مع طريقة التفكير العقلانية ... لكن الأسف الشديد يعود إلى ظهور فئات هوامشية ، تريد أن تبحث لها عن عمق ما ، تسقط مخاوفها الهستيرية ، وشبكة أمراضها المركبة التي تحفل بها ،على الدين ، فتعلي دينها الخاص والباطالوجي ، وتشرع في العمل وفق مشيئة الحقائق المقدسة التي تؤمن بها ، فيأتي السحل عندهم سهلا وسريعا ، وتحتل كلمات التكفير والإدانة لغتهم ، ويمارسون رسولية موهومة أعطوها لأنفسهم .

دائما ما نقول أن الإختلاف ليس شرطا للخلاف الإجتماعي ، لكن هذا ما نقوله نحن ، نحن متبني فكر التنوير ، ومتبني فكر التسامح ، وفكر التعايش ، حتى مع أكثر المخالفين ،والمهددين لنا ... لكن ماذا عنهم هم ، ماذا عن الذين لا يرون في الوجود غير حقائقهم الوحيدة التي يؤمنون بها ؟؟؟؟

أريد أن أسمع ، وأريد أن أقرأ، قصاصة إخبارية، تقول أن أستاذ مادة الفلسفة هدد شخصا آخر بالنحر ، وحاكى فعل النحر، وعمل على الركل والضرب ... أبدا ، لن تجدوا هذه القصاصة ، وإن تم إفتراضها ، فإنها ستكون عبارة عن مسرحية يؤدي فيها الأستاذ هذا الدور ،ويلعب فانتازيا دور للتسلية المسرحية ليس إلا .

شهد التاريخ ،وبشكل أكثر وضوحا ، في الأنساق الإجتماعية التي لم تقطع إبستيمولوجيا مع طبائع الفكر الأحادي ، أي طبائع فكر الإستبداد،كما جاء عند عبد الرحمان الكواكبي ، تضييقا ممنهجا لفكر العقل ،وتشويها مقصودا لكل العقلانيين ،وتعريضا في حياتهم وأعراضهم ،وإحراقا دائما لمنتوجاتهم الفكرية ... وما هذا إلا لأن هناك دائما فئات مضادة للتنوير ،تتسرطن في حياة الناس البسطاء ، وتعمل على التأليب العاطفي ، وتعمل على مداعبة أوتار الوجدان الديني ، وحين تشكل هذه الفئات حوشيا للدولة ، وتدعم المستبد بتبرير إستبداده ،ويجازيها بترك العنان لأفعالها كيفما كانت ، يتم الخنق التام للعقل ؛ لقد حدثت نكبة إبن رشد في نفس هذا السياق ، رغم أن الرجل كان رجل فكر وفقه ، أو بتعبيره ،كان رجل عقل ونقل ... وفي نفس السياق تمت مطاردة رجال الفكر الإعتزالي ،وسحلهم في الشوارع ، لأن الفئة الباغية - التي تعنيهم هم أصلا - لم تكن مستعدة للحديث مع القعل أبدا،

الفلسفة هي فكر للسؤال غير المحدود ، التواق إلى إنتاج فهم مقبول لا يدعي إمتلاك الحقيقة الأبدية ، لأنها ملك لله ، وهي فكر نزق -إن جاز هذا التعبير - لا يستكين إلى بديهيات قدسية ، والتناقض ، هنا، ليس مع الدين ، فبعارة إبن رشد *الحكمة -الفلسفة - أخت الشريعة من الرضاعة *، تسقط هذا التناقض ، وتظهر زيفه ، لكن التناقض ، هو في الأصل، مع طرائق تفكير مخصوصة لأناس خلطوا ضيقه الفكري مع ممارساتهم التعبدية ، فأنتجوا رؤية عامة تقصي العقل كمنتج للمعرفة ، وتظل رهينة إجتهادات بشرية يمكنها أن تصيب ،كما يمكنها أن تخطئ، لكنها لا يمكنها أن تملك صفة القداسة .

الخوف يزداد ، وتضح مبرراته ، بشكل جلي ، فقبل هذا الإعتداء على مدرس مادة الفلسفة ،كانت هناك محطات تعكس الحرب الشرسة التي يخوضها المتطرفون ضدا في العقل ، فمع فتح الأبواب على مصراعيها للإفتاء من طرف أيا كان ، ومع تواجد فئة لا يرضيها صوت الحكمة ولا يرضيها صوت التعقل ، بات لدينا حقل خصب للمس بذمم الناس ، وللتشكيك في معتقداتهم الدينية ، وللضرب تحت الحزام في أعراضهم وأسرهم وحيواتهم الشخصة .

سؤال يفرض نفسه بشكل ملح ، يتعلق بدور الحكومة ، ومفعولها ،وماذا تفعل ، ولما هي قائمة ... فإن كان دورها يتعلق فقط بإنتاج التصاريح ، ومشاريع القوانين ، والدخول في لعبة شذ الحبل بين أطرافها ،وتدع ، في المقابل ، حياة الناس للناس ،فإنها تؤشر على فشلها قبل ولا يتها التشريعية الثانية ؛ فمن سيعيد لفئات عريضة من الناس حقوقها التي يتم التلاعب بها من طرف أصحاب عقول الوصاية الدينية والفكرية .

أخيرا ، وليس آخرا، نرفع شارة النصر لأستاذ مادة الفلسفة ، الذي تعرض للتعنيف ،وهو تعنيف ، وكيفما كانت أسبابه ، غير مبرر ، ولا يجب أن يكون مبررا إطلاقا ، أو هذا مايدعو إليه العقل الذي نؤمن به ... إننا نتضامن مع محنة الأستاذ، لأننا نعلم أنها محنة للعقل ، ونعلم أنه يتم إنتاج نفس الفئات المحاربة لضوء الشمس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق